أول علاج للاكتئاب في العالم
صفحة 1 من اصل 1
أول علاج للاكتئاب في العالم
معظم الدراسات التي تناولت الفكاهة بالتحليل ظلت تفتقر إلى الفكاهة, بل إن بعضها كان مغرقًا في ثقل الظل, لكن هذا المقال يحاول أن يتناول الضحك, تحليليًا, ولكن بمرح!
كان هيروقليطس وديموقريطس, وهما من فلاسفة اليونان القديمة, يسيران معًا ويشاهدان سخافات الناس, فيضحك أحدهما ويبكي الآخر, فالاثنان يخرجان عواطفهما المكبوتة وانفعالاتهما في صورة تبدو وكأن أحدهما عكس الآخر. لكن الضحك كالبكاء وأحيانا ينقلب الضحك إلى بكاء والبكاء إلى ضحك, وما يفعله الفيلسوفان على اختلافهما في رد الفعل ضروري, لكنني أعتقد أن الضحك في بعض الأحيان وإزاء بعض المواقف أفضل من البكاء, وخاصة للرجال, وعندما كنت أعمل بالطب النفسي حاولت أن أصنع ارتباطا شرطيا عند بعض المرضى الحزانى مع الضحك عند حدوث المشاكل, فكنت أنصح المريض بأن يضحك من مشاكله وسوف يجد ما يضحك عليه طويلاً فالمشاكل هي لب الحياة وعمودها الفقري وقد خُلق الإنسان في كبد. كما أنني كنت أطلب من المريض المكتئب أن يجمع النكات والفكاهات والطرائف التي يسمعها أو يقرأها في كشكول كبير, ثم بعد ذلك يحاول أن يصنع صنيعها وينسج على منوالها.
سؤال هاجس: لماذا يضحك الإنسان إذا دغدغه أحد بأصابعه في بطنه بينما لا يضحك إذا قام هو بعملية الدغدغة بنفسه ولنفسه? سؤال حيّر البشرية من قديم. قام العلماء بتكوين ثلاث مجموعات, المجموعة الأولى قام فيها كل شخص بدغدغة زميله فضحك الجميع, وفي المجموعة الثانية قام كل شخص فيها بدغدغة نفسه فلم يضحك أحد, وفي المجموعة الثالثة تولى جهاز آلي دغدغة المجموعة فضحك من المجموعة الثالثة النصف فقط أما النصف الآخر فقد أضحك الجهاز.
ويقول قانون التطور إن (البقاء للأصلح), لكن من هو الأصلح? لقد انقرض الديناصور وبقيت الذبابة فهل الذبابة أقوى وأصلح من الديناصور? أم أن الديناصور أقل مرحًا بينما الذبابة تظل تمرح طوال يومها? أثبتت البحوث الحديثة في مجال المخ والأعصاب أن قدرة الإنسان على الفكاهة والمرح والسخرية المهذبة هي التي تجعله الأرقى بين بني جنسه, فالبقاء ليس للأصلح, ولكن البقاء للأضحك أي الأكثر ضحكا وهو الأصلح.
دراسات حديثة عن نشاط المخ بينما الإنسان يضحك: هناك دليل على أن الفصوص الأمامية مسئولة عن النكتة والفكاهة بينما تشارك مناطق المخ والتحكم الحركي في تنفيذ الاستجابة الطبيعية للضحك, مثل القهقهة والاستلقاء على القفا من الضحك, وضرب كف بكف, وفتح الفم وتوسيع الأشداق.
في عام 1999 تم عمل دراسة تحليلية لمرضى بتلف في الفصوص الأمامية اليمنى حيث تتجمع معطيات الانفعال والمنطق والإدراك الحسي, وجد أن هؤلاء المرضى لا يستطيعون اختيار موضوعات الفكاهة ويجدون صعوبة في التحكم في مسارها وعادة ما يختارون الفكاهات الأكثر سخافة ومنافاة للعقل والأسلوب الكوميدي الرخيص, وتأتي الدعابة عادة خشنة رخيصة متدنية. صنع النكتة والضحك عليها يعتمد على وظائف المخ العليا.
هل هناك علاقة بين إلقاء نكتة من إنسان والضحك عليها من قبل آخرين? هل هناك علاقة بين الفكاهة والضحك, وهل الفكاهة هي سبب الضحك? لاحظ بعض الباحثين أن من يلقون النكات على المستمعين يضحكون أكثر منهم ربما لكي يجعلوهم يضحكون بالعدوى, فالضحك بلا شك عدوى كما أن بعض الباحثين في علم النفس أقروا أن الفعل يسبق الانفعال فالإنسان يضحك على النكتة بمجرد إلقائها لأنه مهيأ لذلك قبل أن يستوعبها, كما أننا نضحك على النكات السخيفة والنكات القديمة التي سمعناها كثيرًا من قبل, والضحك قد يكون بسبب آخر غير النكتة التي ألقيت قبل الضحك مباشرة, فلربما كانت النكتة بمنزلة العامل الحفاز. أما السبب الحقيقي للضحك فهو التفاعل الاجتماعي, بدليل (الإنسان لا يضحك وحيدًا وإلا اتهم بالجنون) وعندما تكون وحيدًا قد تتحدث بصوت مرتفع لكنك لا تضحك بصوت مرتفع والنسبة بين ضحك الإنسان مع آخرين وضحكه وحيدًا هي 30 : 1.
فالضحك ليس استجابة غريزية فطرية للفكاهة كالإجفال عند الألم والرعشة عند البرد ولكنه شكل من أشكال الارتباط الاجتماعي الغريزي تقدح الفكاهة زناده.
يقول المثل الشعبي المصري (الضحك من غير سبب قلة أدب) القراءة التجريدية للمثل لا تدعو لمنع الضحك, وإنما تدعو لاختلاق سبب للضحك, أي صنع موقف فكاهي من مواقف الحياة الصعبة ثم بعد ذلك يضحك الإنسان كيفما شاء, وفي صنع الموقف الفكاهي إعمال للعقل وتنشيط لخلايا المخ وتغيير الحالة النفسية من الاكتئاب للبهجة.
الضحك والذكاء: الاستمتاع بالفكاهة والنكات التي تحتوي على رمز ولها مستويات عدة للفهم هو طبيعة للأذكياء, وكلما ازداد مُعامل الذكاء, استمتع الإنسان بالنكتة, بل إننا لا نضحك على النكتة بقدر ما نضحك إعجابًا بذكائنا على أننا فهمناها. يقول الفيلسوف هنري برجسون إن الإنسان لا يستطيع أن يضحك إلا في وجود غيره من الناس, بل إنه لا يستسيغ أصلاً الضحك حين يستبد به الشعور بالوحدة, إذ يبدو أن الضحك يحتاج دائما إلى أن يكون له صدى وأن يجد له تجاوبا مع الآخرين), فضحكنا دائما هو ضحك جماعة وليس ضحك أفراد, من حيث هم أفراد والضحك مع الجماعة يتخذ معنى أعمق من المعنى الفردي فهو يزيد الحدود ويقوي الروابط ويجعل الإنسان ينظر للحياة بمودة وللجنس البشري بمحبة.
هل الإنسان هو فقط الذي يضحك? مادمت لا تعرف لغة الحيوان والطيور فلن تعرف أبدا إن كانت تضحك أم لا, لكن العلماء لم يقفوا مكتوفي الأيدي, فالبداية كانت مع داروين فقد قارن بين الأصوات المتكررة التي تنطقها القردة العليا عند دغدغتها, وبين ضحك الإنسان وقال بوجود تشابه بينهما. ولاحظ علماء آخرون حركات عند القردة أطلقوا عليها الوجه اللاعب, حيث تتكرر عملية الخفض لجفني العين والفتح للفم إلى أقصى اتساع فتنكشف الأسنان واعتبروا ذلك شبيهًا بالابتسام أما عالم الضحك (روبرت بروفين) فقد وجد اختلافًا واضحًا بين ضحك الإنسان وما يُعتقد أنه ضحك قردة الشمبانزي (وقد لا يكون ذلك كذلك) فالإنسان يضحك هاهاها والقردة العليا تضحك أهـ أهـ أهـ.
مشكلات غير قابلة للحل: للإنسان الذي يعاني من مشكلة غير قابلة للحل أن يلجأ لوسائل ثلاث وهي أن يتكيف معها رغما عنه ويقبلها على مضض وهذه هي المرحلة الأولى, أما المرحلة الثانية فهي أن يتحملها ويتسامح معها وهي أفضل من المرحلة الأولى لأن التسامح مع المشكلة وتحملها هو تغلب عليها وقهر لها عكس التكيف حيث إنه في التكيف تظل المشكلة قائمة, تخبو حينا ويشتعل أوارها أحيانا, والمرحلة الثالثة هي التسامي على المشكلة وليست هذه في مقدور كل البشر فهي من أخلاق الملائكة, فماذا عن دور الفكاهة والمرح في هذا السياق? إن الفكاهة والضحك يساعدان الإنسان على قطع هذه المراحل الثلاث وتحقيقها, بل إن العالم إيزنك قال إن الضحك نوع سام من أنواع التكيف وهو كما سماه (التكيف السامي), وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن الضحك أيضا يحقق التحمل والتسامح.
ويقول جان بياجيه عالم النفس الفرنسي الشهير إن الضحك كاللغة يؤدي لجميع الأفراد وظائف مشتركة تقرب فيما بينهم وله معان مشتركة ودلالات مشتركة, وكما أن هناك اختلافات في اللغة من وطن لآخر كذلك هناك اختلافات في الفكاهة والنكات من وطن لآخر, فما يضحك عليه شعب من الشعوب لا يضحك عليه شعب آخر وتعددت الفكاهة والضحك واحد.
ويحتاج الوجدان الشعبي أو الجمعي الذي يتوارثه الأحفاد عن الأجداد إلى ما يذكيه, ويحافظ عليه متقدًا ينتقل من جيل إلى جيل, والفكاهة المتوارثة من أكثر الأشياء التي حافظت على الروح الجماعية للمشرق العربي وهناك دائما جحا.
يقول نيتشه: إنني لا أعرف تمامًا لماذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضحك? فإنه لما كان الإنسان هو أعمق الكائنات شعورًا بالألم كان لابد له أن يخترع الضحك. فالتعس هو الذي يضحك لكي يبدل بتعاسته الفرح, وليس من الغريب أن تنبع أجمل فكاهة من أعمق الناس حزنًا. واعتبر فرويد الفكاهة واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان وتصدر عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات, وتقوم هذه الآلية الدفاعية بتحويل حالة الضيق إلى حالة المتعة. وينظر كذلك فرويد للنكتة على أنها قناع عدواني أو جنسي لكي يخفي الشخص حالات الإحباط الخاصة به.
والضحك ليس دليلا على السرور, بل إن الضحك هو الذي يولد السرور والسعادة, فأنت إذا كنت حزينا وضحكت فسوف يتحول الحزن إلى سرور, لأن الفعل يسبق الانفعال ويصنعه, والضحك عمل الإرادة وفي وسع المرء أن يقرر أن يضحك. يقول جيمز لانج (لا نضحك لأننا مسرورون بل نحن مسرورون لأننا نضحك) ويقول مكدوجل (إذا كنا نشعر بالسرور حينما نضحك فإننا نشعر بالسرور لأننا نضحك), أما روبرت بروفين وهو عالم متخصص في دراسات الضحك فوجد أن 80% من الضحكات التي يطلقها الناس خلال حديثهم العادي ليس لها علاقة بالفكاهة, أما الـ20% الباقية فهي ترتبط بالفكاهة, وقد فسر مكدوجل الضحك كغريزة من الغرائز الأساسية للإنسان لكن هذه الغريزة ترتبط بمشاعر الضيق والألم أكثر من ارتباطها بمشاعر البهجة والفرح.
الفكاهة والفاكهة
يقول مارسيل بانيول: القمع السياسي من شأنه ترويج النكات السياسية والتفاوت الطبقي يؤدي إلى انتشار القفشات الاجتماعية والسخرية من الأثرياء, والكبت الجنسي يساعد على ذيوع الدعابات الفاضحة والتوريات الماجنة, والفقر والجهل يعملان على ظهور الفكاهات العدوانية, على حين تساعد الثقافة على الارتفاع بمستوى الفكاهة الراقية التي لا تخلو من عنصري الذكاء والمعرفة. أذكر أنني أثناء عملي في الطب النفسي كان من ضمن الاختبارات التي نجريها على المرضى اختبار الأمثال الشعبية لكي نفهم من خلاله التفكير لدى المريض, وهل هو تفكير تجريدي أم تجسيدي لكنني كنت أستبدل بالأمثال الشعبية نكاتًا أقولها للمريض وأرى رد فعله وتفهمه للنكتة, وأطلب منه أن يلقي هو نكاتًا وكان هذا الاختبار يصلح أيضا ليس فقط للتفكير, وإنما للمزاج والانفعالات والذكاء وسمات الشخصية وحس الفكاهة. وهو لا يفيد المريض فقط تشخيصًا وعلاجَا وإنما يستفيد منه الطبيب أيضًا!
في مسرحية شهيرة لممثل كوميدي مصري أذيعت مرات عدة, وقبل أن ينتهي أي مشهد فكاهي نفاجأ بانطلاق ضحكة نسائية مميزة طويلة, بعدها ينفجر باقي النظارة من الضحك وقد أصابتهم عدوى الضحك, وربما كانت هذه السيدة الضاحكة تعمل مع الفرقة المسرحية بوظيفة ضاحك أول وتتقاضى عن ذلك راتبًا, ومن المؤكد أن الوقت الذي يمر بين المشهد الفكاهي وانطلاق الضحكة الأولى لا يكفي لكي يستوعب الإنسان الموقف الفكاهي ويضحك له, فقد كانت الضحكة تنطلق قبل أن ينتهي المشهد بثوان ثم ينطلق وراءها الآخرون يضحكون لاشعوريًا, وربما كان المشهد لا يثير الضحك أو الابتسام.
والإنسان كائن ضاحك والطرفة أو النكتة علاج نفسي مثلها مثل الحلم الذي يراه النائم, فهي قصيرة مكثفة مختزلة غير منطقية, وهي مثل الحلم تعمل على تكوين أشكال بديلة ذات طبيعة مماثلة, وتعبر عن شيء رمزي داخل الإنسان له شكله الظاهر ومحتواه الباطن, كما أنها تساعد الإنسان على إخراج عواطفه المكبوتة في صورة ضحك أو ابتسام, تلك العواطف المختزنة في العقل الباطن, والصحة النفسية للإنسان تتمثل في قدرته على صنع النكتة أو الموقف الفكاهي والتلاعب بالألفاظ حتى أثناء المأساة أو العمل الجاد العميق, وأذكر أنني يوم وفاة أمي في أحد المستشفيات الخاصة, وعند إخراج الجثمان, ذهبت لمدير المستشفى لدفع الحساب, فقدم لي مدير المستشفى تخفيضًا خاصًا باعتباري من الأطباء, فقلت له من خلال حزني العميق: إن الموت رخيص جدًا لديكم, وسوف آتي لأموت عندكم. يقول فرويد (إن الفكاهة ترتد بنا إلى تلك الحرية السعيدة المنطلقة التي كنا نستمتع بها أثناء الطفولة قبل أن تكون علينا رقابة أو رقيب). والفكاهة تساعد على الهرب المؤقت من قسوة الحياة وعناء الواقع, لكي نتمكن بعد ذلك من مواجهتهما, والفكاهة هي فن تحقيق المستحيل الذي لا تستطيع أن تحققه في الواقع, فتسخر منه أو تحققه بصورة فكاهية رمزية كما في الفكاهة أو النكت. إن الفكاهة والضحك هما استجابة أو رد فعل مهمته الأولى تحرير الطاقة المكبوتة الناتجة عن القلق والاكتئاب والتوتر, والإنسان الذي يعاني هو أكثر الناس قدرة على الضحك والفكاهة والسخرية والمرح.
أكثر من ارتباطها بمشاعر البهجة والفرح.
كان هيروقليطس وديموقريطس, وهما من فلاسفة اليونان القديمة, يسيران معًا ويشاهدان سخافات الناس, فيضحك أحدهما ويبكي الآخر, فالاثنان يخرجان عواطفهما المكبوتة وانفعالاتهما في صورة تبدو وكأن أحدهما عكس الآخر. لكن الضحك كالبكاء وأحيانا ينقلب الضحك إلى بكاء والبكاء إلى ضحك, وما يفعله الفيلسوفان على اختلافهما في رد الفعل ضروري, لكنني أعتقد أن الضحك في بعض الأحيان وإزاء بعض المواقف أفضل من البكاء, وخاصة للرجال, وعندما كنت أعمل بالطب النفسي حاولت أن أصنع ارتباطا شرطيا عند بعض المرضى الحزانى مع الضحك عند حدوث المشاكل, فكنت أنصح المريض بأن يضحك من مشاكله وسوف يجد ما يضحك عليه طويلاً فالمشاكل هي لب الحياة وعمودها الفقري وقد خُلق الإنسان في كبد. كما أنني كنت أطلب من المريض المكتئب أن يجمع النكات والفكاهات والطرائف التي يسمعها أو يقرأها في كشكول كبير, ثم بعد ذلك يحاول أن يصنع صنيعها وينسج على منوالها.
سؤال هاجس: لماذا يضحك الإنسان إذا دغدغه أحد بأصابعه في بطنه بينما لا يضحك إذا قام هو بعملية الدغدغة بنفسه ولنفسه? سؤال حيّر البشرية من قديم. قام العلماء بتكوين ثلاث مجموعات, المجموعة الأولى قام فيها كل شخص بدغدغة زميله فضحك الجميع, وفي المجموعة الثانية قام كل شخص فيها بدغدغة نفسه فلم يضحك أحد, وفي المجموعة الثالثة تولى جهاز آلي دغدغة المجموعة فضحك من المجموعة الثالثة النصف فقط أما النصف الآخر فقد أضحك الجهاز.
ويقول قانون التطور إن (البقاء للأصلح), لكن من هو الأصلح? لقد انقرض الديناصور وبقيت الذبابة فهل الذبابة أقوى وأصلح من الديناصور? أم أن الديناصور أقل مرحًا بينما الذبابة تظل تمرح طوال يومها? أثبتت البحوث الحديثة في مجال المخ والأعصاب أن قدرة الإنسان على الفكاهة والمرح والسخرية المهذبة هي التي تجعله الأرقى بين بني جنسه, فالبقاء ليس للأصلح, ولكن البقاء للأضحك أي الأكثر ضحكا وهو الأصلح.
دراسات حديثة عن نشاط المخ بينما الإنسان يضحك: هناك دليل على أن الفصوص الأمامية مسئولة عن النكتة والفكاهة بينما تشارك مناطق المخ والتحكم الحركي في تنفيذ الاستجابة الطبيعية للضحك, مثل القهقهة والاستلقاء على القفا من الضحك, وضرب كف بكف, وفتح الفم وتوسيع الأشداق.
في عام 1999 تم عمل دراسة تحليلية لمرضى بتلف في الفصوص الأمامية اليمنى حيث تتجمع معطيات الانفعال والمنطق والإدراك الحسي, وجد أن هؤلاء المرضى لا يستطيعون اختيار موضوعات الفكاهة ويجدون صعوبة في التحكم في مسارها وعادة ما يختارون الفكاهات الأكثر سخافة ومنافاة للعقل والأسلوب الكوميدي الرخيص, وتأتي الدعابة عادة خشنة رخيصة متدنية. صنع النكتة والضحك عليها يعتمد على وظائف المخ العليا.
هل هناك علاقة بين إلقاء نكتة من إنسان والضحك عليها من قبل آخرين? هل هناك علاقة بين الفكاهة والضحك, وهل الفكاهة هي سبب الضحك? لاحظ بعض الباحثين أن من يلقون النكات على المستمعين يضحكون أكثر منهم ربما لكي يجعلوهم يضحكون بالعدوى, فالضحك بلا شك عدوى كما أن بعض الباحثين في علم النفس أقروا أن الفعل يسبق الانفعال فالإنسان يضحك على النكتة بمجرد إلقائها لأنه مهيأ لذلك قبل أن يستوعبها, كما أننا نضحك على النكات السخيفة والنكات القديمة التي سمعناها كثيرًا من قبل, والضحك قد يكون بسبب آخر غير النكتة التي ألقيت قبل الضحك مباشرة, فلربما كانت النكتة بمنزلة العامل الحفاز. أما السبب الحقيقي للضحك فهو التفاعل الاجتماعي, بدليل (الإنسان لا يضحك وحيدًا وإلا اتهم بالجنون) وعندما تكون وحيدًا قد تتحدث بصوت مرتفع لكنك لا تضحك بصوت مرتفع والنسبة بين ضحك الإنسان مع آخرين وضحكه وحيدًا هي 30 : 1.
فالضحك ليس استجابة غريزية فطرية للفكاهة كالإجفال عند الألم والرعشة عند البرد ولكنه شكل من أشكال الارتباط الاجتماعي الغريزي تقدح الفكاهة زناده.
يقول المثل الشعبي المصري (الضحك من غير سبب قلة أدب) القراءة التجريدية للمثل لا تدعو لمنع الضحك, وإنما تدعو لاختلاق سبب للضحك, أي صنع موقف فكاهي من مواقف الحياة الصعبة ثم بعد ذلك يضحك الإنسان كيفما شاء, وفي صنع الموقف الفكاهي إعمال للعقل وتنشيط لخلايا المخ وتغيير الحالة النفسية من الاكتئاب للبهجة.
الضحك والذكاء: الاستمتاع بالفكاهة والنكات التي تحتوي على رمز ولها مستويات عدة للفهم هو طبيعة للأذكياء, وكلما ازداد مُعامل الذكاء, استمتع الإنسان بالنكتة, بل إننا لا نضحك على النكتة بقدر ما نضحك إعجابًا بذكائنا على أننا فهمناها. يقول الفيلسوف هنري برجسون إن الإنسان لا يستطيع أن يضحك إلا في وجود غيره من الناس, بل إنه لا يستسيغ أصلاً الضحك حين يستبد به الشعور بالوحدة, إذ يبدو أن الضحك يحتاج دائما إلى أن يكون له صدى وأن يجد له تجاوبا مع الآخرين), فضحكنا دائما هو ضحك جماعة وليس ضحك أفراد, من حيث هم أفراد والضحك مع الجماعة يتخذ معنى أعمق من المعنى الفردي فهو يزيد الحدود ويقوي الروابط ويجعل الإنسان ينظر للحياة بمودة وللجنس البشري بمحبة.
هل الإنسان هو فقط الذي يضحك? مادمت لا تعرف لغة الحيوان والطيور فلن تعرف أبدا إن كانت تضحك أم لا, لكن العلماء لم يقفوا مكتوفي الأيدي, فالبداية كانت مع داروين فقد قارن بين الأصوات المتكررة التي تنطقها القردة العليا عند دغدغتها, وبين ضحك الإنسان وقال بوجود تشابه بينهما. ولاحظ علماء آخرون حركات عند القردة أطلقوا عليها الوجه اللاعب, حيث تتكرر عملية الخفض لجفني العين والفتح للفم إلى أقصى اتساع فتنكشف الأسنان واعتبروا ذلك شبيهًا بالابتسام أما عالم الضحك (روبرت بروفين) فقد وجد اختلافًا واضحًا بين ضحك الإنسان وما يُعتقد أنه ضحك قردة الشمبانزي (وقد لا يكون ذلك كذلك) فالإنسان يضحك هاهاها والقردة العليا تضحك أهـ أهـ أهـ.
مشكلات غير قابلة للحل: للإنسان الذي يعاني من مشكلة غير قابلة للحل أن يلجأ لوسائل ثلاث وهي أن يتكيف معها رغما عنه ويقبلها على مضض وهذه هي المرحلة الأولى, أما المرحلة الثانية فهي أن يتحملها ويتسامح معها وهي أفضل من المرحلة الأولى لأن التسامح مع المشكلة وتحملها هو تغلب عليها وقهر لها عكس التكيف حيث إنه في التكيف تظل المشكلة قائمة, تخبو حينا ويشتعل أوارها أحيانا, والمرحلة الثالثة هي التسامي على المشكلة وليست هذه في مقدور كل البشر فهي من أخلاق الملائكة, فماذا عن دور الفكاهة والمرح في هذا السياق? إن الفكاهة والضحك يساعدان الإنسان على قطع هذه المراحل الثلاث وتحقيقها, بل إن العالم إيزنك قال إن الضحك نوع سام من أنواع التكيف وهو كما سماه (التكيف السامي), وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن الضحك أيضا يحقق التحمل والتسامح.
ويقول جان بياجيه عالم النفس الفرنسي الشهير إن الضحك كاللغة يؤدي لجميع الأفراد وظائف مشتركة تقرب فيما بينهم وله معان مشتركة ودلالات مشتركة, وكما أن هناك اختلافات في اللغة من وطن لآخر كذلك هناك اختلافات في الفكاهة والنكات من وطن لآخر, فما يضحك عليه شعب من الشعوب لا يضحك عليه شعب آخر وتعددت الفكاهة والضحك واحد.
ويحتاج الوجدان الشعبي أو الجمعي الذي يتوارثه الأحفاد عن الأجداد إلى ما يذكيه, ويحافظ عليه متقدًا ينتقل من جيل إلى جيل, والفكاهة المتوارثة من أكثر الأشياء التي حافظت على الروح الجماعية للمشرق العربي وهناك دائما جحا.
يقول نيتشه: إنني لا أعرف تمامًا لماذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضحك? فإنه لما كان الإنسان هو أعمق الكائنات شعورًا بالألم كان لابد له أن يخترع الضحك. فالتعس هو الذي يضحك لكي يبدل بتعاسته الفرح, وليس من الغريب أن تنبع أجمل فكاهة من أعمق الناس حزنًا. واعتبر فرويد الفكاهة واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان وتصدر عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات, وتقوم هذه الآلية الدفاعية بتحويل حالة الضيق إلى حالة المتعة. وينظر كذلك فرويد للنكتة على أنها قناع عدواني أو جنسي لكي يخفي الشخص حالات الإحباط الخاصة به.
والضحك ليس دليلا على السرور, بل إن الضحك هو الذي يولد السرور والسعادة, فأنت إذا كنت حزينا وضحكت فسوف يتحول الحزن إلى سرور, لأن الفعل يسبق الانفعال ويصنعه, والضحك عمل الإرادة وفي وسع المرء أن يقرر أن يضحك. يقول جيمز لانج (لا نضحك لأننا مسرورون بل نحن مسرورون لأننا نضحك) ويقول مكدوجل (إذا كنا نشعر بالسرور حينما نضحك فإننا نشعر بالسرور لأننا نضحك), أما روبرت بروفين وهو عالم متخصص في دراسات الضحك فوجد أن 80% من الضحكات التي يطلقها الناس خلال حديثهم العادي ليس لها علاقة بالفكاهة, أما الـ20% الباقية فهي ترتبط بالفكاهة, وقد فسر مكدوجل الضحك كغريزة من الغرائز الأساسية للإنسان لكن هذه الغريزة ترتبط بمشاعر الضيق والألم أكثر من ارتباطها بمشاعر البهجة والفرح.
الفكاهة والفاكهة
يقول مارسيل بانيول: القمع السياسي من شأنه ترويج النكات السياسية والتفاوت الطبقي يؤدي إلى انتشار القفشات الاجتماعية والسخرية من الأثرياء, والكبت الجنسي يساعد على ذيوع الدعابات الفاضحة والتوريات الماجنة, والفقر والجهل يعملان على ظهور الفكاهات العدوانية, على حين تساعد الثقافة على الارتفاع بمستوى الفكاهة الراقية التي لا تخلو من عنصري الذكاء والمعرفة. أذكر أنني أثناء عملي في الطب النفسي كان من ضمن الاختبارات التي نجريها على المرضى اختبار الأمثال الشعبية لكي نفهم من خلاله التفكير لدى المريض, وهل هو تفكير تجريدي أم تجسيدي لكنني كنت أستبدل بالأمثال الشعبية نكاتًا أقولها للمريض وأرى رد فعله وتفهمه للنكتة, وأطلب منه أن يلقي هو نكاتًا وكان هذا الاختبار يصلح أيضا ليس فقط للتفكير, وإنما للمزاج والانفعالات والذكاء وسمات الشخصية وحس الفكاهة. وهو لا يفيد المريض فقط تشخيصًا وعلاجَا وإنما يستفيد منه الطبيب أيضًا!
في مسرحية شهيرة لممثل كوميدي مصري أذيعت مرات عدة, وقبل أن ينتهي أي مشهد فكاهي نفاجأ بانطلاق ضحكة نسائية مميزة طويلة, بعدها ينفجر باقي النظارة من الضحك وقد أصابتهم عدوى الضحك, وربما كانت هذه السيدة الضاحكة تعمل مع الفرقة المسرحية بوظيفة ضاحك أول وتتقاضى عن ذلك راتبًا, ومن المؤكد أن الوقت الذي يمر بين المشهد الفكاهي وانطلاق الضحكة الأولى لا يكفي لكي يستوعب الإنسان الموقف الفكاهي ويضحك له, فقد كانت الضحكة تنطلق قبل أن ينتهي المشهد بثوان ثم ينطلق وراءها الآخرون يضحكون لاشعوريًا, وربما كان المشهد لا يثير الضحك أو الابتسام.
والإنسان كائن ضاحك والطرفة أو النكتة علاج نفسي مثلها مثل الحلم الذي يراه النائم, فهي قصيرة مكثفة مختزلة غير منطقية, وهي مثل الحلم تعمل على تكوين أشكال بديلة ذات طبيعة مماثلة, وتعبر عن شيء رمزي داخل الإنسان له شكله الظاهر ومحتواه الباطن, كما أنها تساعد الإنسان على إخراج عواطفه المكبوتة في صورة ضحك أو ابتسام, تلك العواطف المختزنة في العقل الباطن, والصحة النفسية للإنسان تتمثل في قدرته على صنع النكتة أو الموقف الفكاهي والتلاعب بالألفاظ حتى أثناء المأساة أو العمل الجاد العميق, وأذكر أنني يوم وفاة أمي في أحد المستشفيات الخاصة, وعند إخراج الجثمان, ذهبت لمدير المستشفى لدفع الحساب, فقدم لي مدير المستشفى تخفيضًا خاصًا باعتباري من الأطباء, فقلت له من خلال حزني العميق: إن الموت رخيص جدًا لديكم, وسوف آتي لأموت عندكم. يقول فرويد (إن الفكاهة ترتد بنا إلى تلك الحرية السعيدة المنطلقة التي كنا نستمتع بها أثناء الطفولة قبل أن تكون علينا رقابة أو رقيب). والفكاهة تساعد على الهرب المؤقت من قسوة الحياة وعناء الواقع, لكي نتمكن بعد ذلك من مواجهتهما, والفكاهة هي فن تحقيق المستحيل الذي لا تستطيع أن تحققه في الواقع, فتسخر منه أو تحققه بصورة فكاهية رمزية كما في الفكاهة أو النكت. إن الفكاهة والضحك هما استجابة أو رد فعل مهمته الأولى تحرير الطاقة المكبوتة الناتجة عن القلق والاكتئاب والتوتر, والإنسان الذي يعاني هو أكثر الناس قدرة على الضحك والفكاهة والسخرية والمرح.
أكثر من ارتباطها بمشاعر البهجة والفرح.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى